في مديح الجينز
توطئة:
يتضمن النص التالي ترجمة النص الأصلي الإيطالي لمقال الفيلسوف والروائي والسيميائي الإيطالي الراحل مؤخرًا أُمبيرتو أيكو Umberto Eco . وقد نشر تحت عنوان il pensiero lombare أي الفكر القَطَني في جريدة Corriere della Sera في 12 أغسطس /آب 1976 ثم نشر محررًا في عام 1983 ضمن مجموعة مقالات تحت عنوان Sette anni di desiderio “سبع سنوات من الرغبة”. وآثرت أن أجعل عنوانه : “في مديح الجينز”. والتزمت في الإملاء مذهب إثبات كل ألف حذفتها قاعدة الإلف، واستخدمت حرف القيف ݠ لنقحرة القاف المعقودة التي تنطق كما ينطق حرف G في كلمة GO. وأضفت بعض الحواشي التي لم تكن في الأصل وإنما ارتأيت أن فيها تقريبًا لمراد الكاتب من القارئ غير المطلع.
نص المقال:
قبل أسابيع كتبَتْ Luca Goldoni تقريرًا ممتعًا من الساحل الأدرياتيكي عن الحوادث المزعجة لأولائك الذين يرتدون الجينز الأزرق من باب مسايرة صرخات الأزياء، فيجدون أنفسهم عاجزين عن الجلوس بيسر،أو إيجاد وضعية مناسبة لأعضائهم التناسلية الخارجية داخل [ذالك البنطال]. أعتقد أن المشكلة التي تناولتها Goldoni ثرية بالتأملات الفلسفية، التي أحب أن أتعقبها بنفسي بجدية قصوى، لأنه ليس هنالك تجربة يومية يمكن أن تكون غير ذات بالِ بالنسبة لرجل مفكر، وقد حان الأوان لأن تخطو الفلسفة لا على قدميها وحسب، بل ومستندة على خصريها.
بدأت بارتداء الجينز في أيام كان قلة من الناس من يفعل ذالك، بيد أن ذالك كان في أيام إجازاتي. كنت وما زلت أجده مريحًا جدًا، خاصة أثناء السفر، لأنك لا تحمل همًا للتجعدات، أو التشققات، أو البقع. في أيام الناس هاذه يُلبس الجينز من أجل المظهر الحسن، بيد أنه بالأساس لباس منفعي. ولم أضطر إلى نبذ هاكذا متعة إلى في السنوات القليلة المتأخرة بسبب ازدياد وزني. صحيح أنه لو بحثت فستجد جينزًا بمقاسِ كبيرِ جدًا ( محلMacy’s في نيويورك يستطيع توفير جينز بمقاس مناسب حتى لأوليفر هاردي[1] Oliver Hardy )، بيد أن تلك الجينزات ليست عريضة حول الخصر وحسب، بل حتى حول الساقين، مما يجعل منظرها غير مبهج للنظر.
مؤخرًا حينما بدأت أخفف من معاقرة الخمرة، أهلكت عددًا من الجنيهات لتجربة جينز يكاد يكون عاديًا. فمررت بتجربة عذاب نفسي كالتي وصفتها Goldoni ؛حينما يقول رجل المبيعات: ” شدّه!، فسوف يتسع ليناسبك”؛ وقد بزغتُ منه دون أن أضغط معدتي إلى الداخل (فأنا أرفض القبول بهاكذا تسوية). وبعد وقت طويل، ها أنا أستمتع بإحساس ارتداء بنطال بدل أن يحكم القبضة على الخصر فهو يحتوي الردفين، فمن خصائص الجنز إحكام القبضة على أسفل الظهر مع بقائه مرتفعًا والفضل هنا ليس للتعليق بل للالتصاق.
كان الاحساس بعد انقطاع طويل جديدًا. لم يكن سيئًا بيد أن الجينز عبّر عن حضوره. بالرغم من مرونته إلا أنني أحسست به كدرع يحيط بأسفل جسدي. ورغم رغبتي فلم أستطع أن أثني معدتي أو أحشرها داخل البنطال، واضطررت لثنيها وحشرها كجزء من البنطال. وهذا يقسم جسمك – إن جاز التعبير، إلى منطقتين مستقلتين؛ منطقة خالية من اللباس تعلو الحزام، ومنطقة تعرّف نفسها عضويًا مع اللباس، وتقع أسفل الحزام مباشرة وتمتد حتى الكاحلين. وجدت أن حركاتي، طريقة مشيي، انعطافي، جلوسي، وتسارع خطاي، كانت مختلفة. لم تكن أكثر صعوبة أو سهولة؛ لاكنها حتما كانت مختلفة.
بعد طول فراق، كان الإحساس جديدًا، لم يكن الجينز ضيقًا، بيد أنه عبر عن حضوره، فقد كان مرنًا رغم أني أحسست أن أسفل جسدي قد أُغمد. ورغم رغبتي عجزت أن أثني بطني أو أحشرها لتندمج وبنطالي الذي قسم، إن جاز التعبير، جسدي إلىٰ منطقتين مستقلتين، أحدهما خلو من اللباس تشغل ما فوق الحزام، والأخرى يعرّفها اللباس عضويًا، وتمتد محاذية أسفل الحزام ممتدة إلى الكعبين.
أدركت أن مشيتي، واستدارتي، وقعودي، و وتيرة تسارع خطاي، كانت مختلفة. لم تكن أكثر صعوبة أو أكثر سهولة، بيد أنها كانت بالتأكيد مختلفة.
ونتيجة لذٰلك ، عشت مدركًا أنني أرتدي جينزًا، بينما المعتاد أن نعيش غير مدركين أننا نرتدي ملابسًا داخلية أو سراويلًا. عشت لـ)جينزي)، واتخذت سلوكًا خارجيًا كالذي يتخذه من يلبس الجينز [عادة]، وعلى كل حال فقد تبنيت سلوكًا.
من الغريب أن اللباس الذي يعتبر تقليديًا الأقل رسمية والأكثر مخالفة لآداب لياقة الملبس، أصبح هو الذي يفرض مفهوم الأناقة.
من عادتي أن أكون صاخبًا، أقعد كيفما اتفق، مطلقًا العنان لنفسي حيثما أعجبني ذٰلك دون أن أتصنع الأناقة. وأصبح جينزي يضبط تصرفاتي تلك، ويجعلني أكثر تهذيبًا ونضوجًا.
ناقشت هٰذا باستفاضة، خاصة مع مستشارات من الجنس الآخر، وتعلمت منهن، ما توقعته مسبقًا، من أن تجربة مماثلة بالنسبة للنساء ستكون مألوفة لأن غالب لباسهن يُتصوّر منه أن يضفي عليهن مظهرًا أنيقًا: الكعب العالي، المشدّات، حمالات الصدر، الجوارب الطويلة، والكنزات الضيقة.
تأملت آنذاك في تاريخ الحضارة ومدى تأثير اللباس – كأداة حماية – في سلوكنا، وبالتالي في أخلاقنا الخارجية. كان البرجوازي الڤيكتوري صارمًا ورسميًا بسبب ياقته القاسية؛ وكان الرجل النبيل في القرن التاسع عشر مقيّدًا بسبب سترة الرِّدنݠوت Redingote الطويلة، والحذاء العالي، والقبعة العالية Top Hat التي تحد من حركة الرأس الحادة. لو كانت ڤيينا على خط الاستواء وكان برجوازيوها يتجولون مرتدين بنطال البرمودا القصير، فهل كان “فرويد” Freud سيصف ذات الأعراض العصابية، ذات المثلث الأوديپي[2]؛ هل كان سيصفها بذات الطريقة لو كان هو، الطبيب، إسكتلنديًا، يرتدي تنورة كلتية [3]Kilt (كما هو معروف أن القاعدة في ارتدائها ألا يلبس تحتها شيئًا حتى السراويل الداخلية).
اللباس الذي يعتصر الخصيتين يجعل الرجل يفكر بشكل مختلف؛ النساء خلال فترات الطمث؛ الذين يعانون من التهاب الخصية، ضحايا البواسير، والتهاب الإحليل، والموثة “البروستات”[4]، وما شابهها من علل مزمنة يعلمون إلى أي مدى تؤثر الضغوط والعوائق، في منطقة التقاء العَجز بالحَرْقَفَة[5]، على مزاج الشخص وحيوية ذهنه. بيد أن ذات الأمر يمكن أن يقال ( وإن ربما بدرجة أقل دقة) عن الرقبة، والظهر، والقدمين. إن الجنس البشري الذي تعلم التجول بالنعال قد وجَّه تفكيره بشكل مختلف عما لو كانت البشرية قد [استمرت] بالتجول حافية القدمين.
إنه لمن المحزن، خاصة بالنسبة لفلاسفة التقليد المثالي، أن تظن أن الروح تنبع من هاذه الظروف؛ بيد أن هذا ليس صحيحا وحسب، بل العظيم في الأمر أن هيݠل Hegel عرف ذالك أيضا، ولذالك درس النتوءات الجمجمية le bozze craniche التي حددها علماء فراسة الدماغ frenologi، وذالك في كتاب عنونه “Fenomenologia dello Spirito” ظواهرية الروح.[6]
لاكن مشكلة جينزي أنه قادني إلى ملاحظات أخرى. لم يكتف الجينز بفرض سلوك معين علي، بتركيزي انتباهي إلى سلوكي، بل أجبرني أن أعيش للخارج. وقلل ،بكلمات أخر، من جوانيتي.
من الطبيعي لأناس يمارسون مهنة كمهنتي أن يسير أحدهم مفكرًا في أشياء أخرى : مقال يتوجب عليه كتابته، محاضرة لا بد أن يلقيها، العلاقة بين الواحد والمتعدد[7]، حكومة أندريوتي[8] Andreoti، كيف تتعامل مع مشكلة الخلاص، إمكانية وجود حياة في المريخ، آخر أغاني تشيلينتان[9] Celentano ، وعن مفارقة إپيمينديس[10]. وفي [وسطنا] يسمى هذا الحياة الداخلية.
حسنًا، مع جينزي الجديد أضحت حياتي كلها خارجية: فكرت في العلاقة بيني وبين بنطالي، وعلاقتي وجينزي بالمجتمع [المحيط بنا]. لقد حققت حالة الوعي المغاير، أو بالأحرى الوعي الذاتي البشروي[11].
ثم أدركت أن المفكرين، عبر القرون، قد قاتلوا من أجل التخلص من الدروع. كان المقاتلون يعيشون حياة خارجية، متوشحين بالكامل بالدروع الصدرية[12] Loriche والزرديّات[13] Cotte، بيد أن الرهبان قد اخترعوا عادة ،في حين تحقق من ذاتها، متطلبات المظهر [العرفي] (أي : لباس فخم، فضفاض، متناسق، له طيات طويلة منسدلة بشموخ… فإنها تترك الجسد (داخله وأسفله) حرًا، غير واعٍ بوجوده. كان الرهبان أغنياء داخليًا وشديدي القذارة، لأن أجسادهم، التي تحميها عادة، تعظيمهم وإعفائهم، تصبح حرة لتفكير، ولتنسى ذواتها. لم تكن الفكرة كنَسيّة؛ فحري بك أن تتدبر الشملات الحسينة التي كان يرتديها إيراسموس[14] Erasmo. وعندما يتوجب على المثقف أن يرتدي درعًا علمانيًا (شعر مستعار، صدرية، سروال قصير) نرى أنه عندما ينعزل ليفكر، يختال بمبذل[15] فاخر، أو بقميص بلزاكي[16] فضفاض هزلي. التفكير يمقت الضيق.
وإن كان الدرع يفرض على مرتديه أن يعيش للخارج، فإن اضطهاد المرأة الأزلي يعود إلى حقيقة أن المجتمع فرض على المرأة دروعًا، تجبرها أن تتجاهل ممارسة التفكير. واستعبدت صرخات اللباس السائدة (الموضة) المرأة ليس بإجبارها لها أن تكون جذابة، وأن تحافظ على مظهر رقيق، وأن تكون فاتنة ومثيرة جاعلة منها بذالك غرضًا جنسيًا، وحسب، بل استعبدتها في المقام الأول لأن اللباس الذي يشار إليها لترتديه يجبرها نفسيًا على أن تعيش للخارج.
وهاذا يجعلنا ندرك مستوى الموهبة الفكرية الثقافية والبطولة التي يجب أن تكون عليها الفتاة، لتصبح مثل مدام سيڤينيه[17] Madame de Sevigné، أو ڤكتوريا كولُنّا[18] Vittoria Colonna، أو مدام كوري[19] Madame Curie، أو روزا لكسمبرݠ[20] Rosa Luxemburg. التأمل له بعض القيمة لأنه يجعلنا نكتشف أن، رمز التحرر والمساوة مع الرجل، الجينز الأرق الذي يفرضه في يوم الناس هاذا نمط اللباس السائد (الموضة) على النساء، ما هو إلا أحبولة هيمنة؛ لأنه لا يحرر جسدها، بل يخضعها لسمة[21] أخرى، و يحبسها في درع آخر لا يبدو أنه درع لأنه ظاهريًا ” ليس” أنثوي”.
وكتأمل أخير: فالملابس بفرضها مظهرًا خارجيًا، فهي تمثل أدوات سيميائية أو آلات للتواصل. وهاذا معروف مسبقًا، ولاكن لم تكن هنالك محاولة [جادة] لبيان توازيها مع التراكيب البنائية للغة، التي بحسب الكثيرين، تؤثر على التعبير عن الأفكار. أيضا فإن التراكيب البنائية للغة اللباس تؤثر في رؤيتنا للعالم، وبطريقة أكثر ماديةً من “تتابع الأزمنة”[22] consecutio temporum أو وجود صيغة الشرط [الاحتمالي].
وانظر كم مسارًا غامضٍا سلكته “الجدلية” بين الاضطهاد والتحرر، والنضال الشاق لتوضيح ذالك.
حتى ولو عبر الفخذ.!
[1] أوليڤر هاردي (ت 1957) ممثل هزلي أمريكي شديد السمنة.
[2] المثلث الأوديپي triangoli edipici : مفهوم نفساني تحليلي مفهوم ابتدعه فرويد واستوحاه من أسطورة أوديپ الإغريقية، وهي عقدة نفسية تطلق على الذكر الذي يحب والدته ويتعلق بها ويغير عليها من أبيه فيكرهه، ويقابلها عقدة إليكترا عند الأنثى، ويسمى كذالك عقدة أوديپوس.
[3] التنورة الكلتية هي تنورة رجالية يلبسها الرجال في إسكتلندا وتنزل حتى منتصف الساق.
[4] الموثة هو الاسم العربي للبروستاتا وأرى أن استخدامه أولى.
[5] الحرقفة : عَظْم رأْس الورك.
[6] وعنوانه بالألمانية Phänomenologie des Geistes. ترجم جزء منه مصطفى صفوان ونشرته دار الطليعة سنة 1481، وترجمه كاملًا تحت عنوان “فنومينولوجيا الروح” د. ناجي العونلّي ونشرته المنظمة العربية للترجمة سنة 2006.
[7] الواحد والمتعدد: l’Uno e i Molti مشكلة فلسفية أزلية تتمحور حول إيجاد الواحد الذي يقف وراء كل المتعدد وبالإنݠليزية The One and The Many.
[8] جوليو أندريوتي (ت 1992) سياسي إيطالي شهير ترأس الجمهورية ثلاث مرات.
[9] آدريانو تشيلنتانو Adriano Celentano: مغني، ومؤلف موسيقي، ومنتج ومقدم برامج تلفازية إيطالي (ولد سنة 1938) يلقب بالمرن Molleggiato لمهارته في الرقص، زشهر أغانيه Il ragazzo della via Gluck فتى شارع ݠلَكْ.
[10] مفارقة إپيمينيدس: paradosso di Epimenide وتنسب إلى الفيلسوف اليوناني إپيمينيدس Ἐπιμενίδης الذي تنسب إليه العبارة الشهيرة ” كل الكريتيين كاذبون” والمفارقة أكسبها شهرة في عصرنا كاتب الخيال العلمي إسحاق عظيموڤ بعد أن كتب قصته “The Last Question”السؤال الأخير ووظف فيه مفارقة إپيمينيدس الذي وصف الككريتيين كلهم – وهو أحدهم –بالكذب، وتنص هذه المفارقة على أن رجلًا ما يقول عن نفسه أنه كاذب ثم يأتي ليقول كلاما ما، فهل سيكون من الصحيح اعتبار كلامه هذا صدقًا؟.
[11] البشروي نسبة إلى البشرة
[12] الدرع الصدري: وباللاتينية Lorica وهو درع منسوج من الحديد يغطي الصدر.
[13] الدرع الزردي: ويسمى كذالك الزردية وهو درع صدري منسوج من حلقات الحديد.
[14] إيراسموس: وباللاتينية Erasmus فيلسوف هولندي، من رواد الحركة الإنسانية في أوروبا له تأثير كبير في المججال التعليمي وكان يكتب باللاتينية توفي سنة 1536.
[15] المبذل: الاسم العربي لما يسمى بالفرنسية robe de chambre واسمه الإيطالي vestaglia وبالإنݠليزية dressing-gown.
[16] بلزاكي: نسبة إلى بلزاك الأديب الفرنسي الشهير Balzac.
[17] مدام سيڤينيه : Madame de Sevigné أديبة فرنسية من طبقة أرستقراطية عاشت في القرن السابع عشر واشتهرت برسائلها إلى ابنتها التي تعد من روائع الأدب الفرنسي.
[18] ڤيكتوريا كولُنّا: Vittoria Colonna شاعرة إيطالية شهيرة من القرن السادس عشر.
[19] مدام كوري: Madame Curieعالمة كيمياء وفيزياء بولونية متفرنسة حازت نوبل للعلوم سنة 1903.
[20] روزا لكسمبرݠ: منظرة ماركسية ألمانية من يهود بولونيا مؤسسة ما يسمى باللكسمبورݠية أو الاشتراكيةالثورية الديمقراطية، توفيت سنة 1919.
[21] سمة: etichetta بمعناها الاجتماعي ، والذي يطلق عليه بالإنݠليزية Label.
[22] تتابع الأزمنة: وباللاتينية consecutio temporum وهي قاعدة نحوية تضبط تسلسل أمنة الفعل في الجملة.
نشر في موقع حكمة: